فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبو عبيدة: كان رؤبة يهمز سية القوس وسائر العرب لا يهمزونها.
وفي دابة الأرض قولان: أحدهما: أنها الأَرَضة؛ قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وقد قرىء {دابة الأَرَض} بفتح الراء، وهو واحد الأَرَضة؛ ذكره الماوردي.
الثاني: أنها دابة تأكل العيدان.
قال الجوهري: والأَرَضة بالتحريك: دُوَيّبة تأكل الخشب؛ يقال: أرِضت الخشبة تُؤرض أرْضًا بالتسكين فهي مأروضة إذا أكلتها.
قوله تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ} أي سقط {تَبَيَّنَتِ الجن} قال الزجاج: أي تبينت الجن موته.
وقال غيره: المعنى تبين أمر الجن؛ مثل: {واسأل القرية}.
وفي التفسير بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس قال: أقام سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام حولًا لا يُعلم بموته وهو متكىء على عصاه، والجن منصرفة فيما كان أمَرَها به، ثم سقط بعد حول؛ فلما خَرّ تبيّنت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
وهذه القراءة من ابن عباس على جهة التفسير.
وفي الخبر: أن الجن شكرت ذلك للأَرَضَة فأينما كانت يأتونها بالماء.
قال السدي: والطين، ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فإنه مما يأتيها به الشياطين شكرًا؛ وقالت: لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما.
وأنْ في موضع رفع على البدل من الجن، والتقدير: تبين أمر الجن، فحذف المضاف، أي تبين وظهر للإنس وانكشف لهم أمر الجن أنهم لا يعلمون الغيب.
وهذا بدل الاشتمال.
ويجوز أن تكون في موضع نصب على تقدير حذف اللام.
و {لَبِثُوا} أقاموا.
و {الْعَذَابِ الْمُهِينِ} السُّخرة والحمل والبنيان وغير ذلك.
وعمّر سليمان ثلاثًا وخمسين سنة، ومدّة ملكه أربعون سنة؛ فملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن سبع عشرة سنة.
وقال السُّدِّي وغيره: كان عمر سليمان سبعًا وستين سنة، وملك وهو ابن سبع عشرة سنة.
وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن عشرين سنة، وكان ملكه خمسين سنة.
وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بنيان بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه، وقرّب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ومائة وعشرين ألف شاة، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدًا، وقام على الصخرة رافعًا يديه إلى الله تعالى بالدعاء فقال: اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان وقوّيتني على بناء هذا المسجد، اللهمّ فأوزعني شكرك على ما أنعمت عليّ وتوفّني على مِلّتك ولا تُزغ قلبي بعد إذ هديتني، اللهمّ إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلا غفرتَ له وتبت عليه.
ولا خائفٌ إلا أمّنته.
ولا سقيم إلا شفيته.
ولا فقير إلا أغنيته.
والخامس: ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه؛ إلا من أراد إلحادًا أو ظلمًا، يا رب العالمين؛ ذكره الماورديّ.
قلت: وهذا أصح مما تقدّم أنه لم يفرغ بناؤه إلا بعد موته بسنة، والدليل على صحة هذا ما خرّجه النسائيّ وغيره بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالًا ثلاث: حكمًا يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله تعالى ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه المسجد ألا يأتيه أحد لا يَنْهَزه إلا الصلاة فيه أن يخرج من خطيئته كيوم ولدته أمّه» وقد ذكرنا هذا الحديث في آل عمران وذكرنا بناءه في سبحان. اهـ.

.قال أبو السعود:

{ولسليمان الريح} أي وسخَّرنا له الرِّيحَ. وقُرىء برفع الرِّيحِ أي ولسليمان الرِّيحُ مسخَّرةٌ، وقُرىء الرِّياحَ {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي جريها بالغَداةِ مسيرةُ شهرٍ وجريها بالعَشيِّ كذلك. والجملةُ إما مستأنفةٌ أو حالٌ من الرِّيحِ. وقُرىء غُدوتُها ورَوحتُها. وعن الحسنِ رحمه الله: كان يغدُو أي من دمشقَ فيقيلُ باصطَّخَر ثمَّ يروح فيكون رَوَاحه بكابُلَ وقيل: كان يتغذَّى بالرَّيِّ ويتعشَّى بسمرقندَ. ويُحكى أنَّ بعضَهم رأى مكتوبًا في منزلٍ بناحيةِ دِجْلَة كتبه بعضُ أصحابِ سليمانَ عليه السَّلامُ: نحنُ نزلنَاهُ وما بنيناهُ ومبنيًّا وجدناهُ غدونَا من اصطَّخَر فقلناهُ ونحن رائحون منه فبايتونَ بالشَّامِ إنْ شاء الله تعالى.
{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} أي النُّحاسَ المُذابَ أسالَه من معدنِه كما آلانَ الحديدَ لدَّاودَ عليهما السَّلامُ فنبع منه نبوعَ الماء من الينبوعِ ولذلك سُمِّي عينًا وكان ذلك باليمنِ وقيل: كان يسيلُ في الشَّهرِ ثلاثةَ أيَّامٍ. وقوله تعالى: {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} إمَّا جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ أو مَن يعملُ عطفٌ على الرِّيحَ ومن الجنِّ حالٌ متقدِّمةٌ {بِإِذْنِ رَبّهِ} بأمرِه تعالى كما يُنبىءُ عنه قولُه تعالى: {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي ومَن يعدلْ منهم عمَّا أمرناهُ به من طاعةِ سليمانَ. وقُرىء يُزغ على البناء للمفعولِ من أزاغَه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} أي عذابِ النَّارِ في الآخرةِ. رُوي عن السُّدِّيِّ رحمه الله كان معه مَلكٌ بيده سَوطٌ من نارٍ كلُّ منِ استعصى عليه ضربَه من حيثُ لا يراه الجنيُّ {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء} تفصيلٌ لما ذُكر من عملِهم وقوله تعالى: {مِن محاريب} الخ، بيانٌ لمَا يشاء أي من قصورٍ حصينةٍ ومساكنَ شريفةٍ سُمِّيتْ بذلك لأنَّها يُذبُّ عنها ويُحاربُ عليها وقيل: هي المساجدُ {وتماثيل} وصور الملائكةِ والأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على ما اعتادُوه فإنَّها كانتْ تعمل حينئذٍ في المساجدِ ليراها النَّاسُ ويعبدوا مثلَ عباداتِهم. وحرمةُ التَّصاويرِ شرعٌ جديدٌ. ورُوي أنَّهم عملوا أسدينِ في أسفل كرسِّيهِ ونِسرين فوقه فإذا أراد أن يصعدَ بسط الأسدانِ ذراعيهما وإذا قعدَ أضلَّه النَّسرانِ بأجنحتِهما {وَجِفَانٍ} جمع جَفْنةٍ وهي الصَّحفةُ {كالجواب} كالحياضِ الكبارِ جمع جابيةٍ من الجباية لاجتماعِ الماء فيها وهي من الصِّفاتِ الغالبةِ كالدَّابة. وقُرىء بإثبات الياء قيل كان يقعدُ على الجفنةِ ألفُ رجلٍ {وَقُدُورٍ رسيات} ثابتاتٍ على الأَثَافي لا تنزل عنها لعظمِها {اعملوا ءالَ دَاوُودُ شاكرا} حكاية لما قيل لهم وشُكرًا نصبٌ على أنَّه مفعولٌ له أو مصدرٌ لاعملُوا لأنَّ العمل للمنعمِ شكرٌ له أو لفعله المحذوفِ أي اشكرُوا شكرًا أو حالٌ أي شاكرين أو مفعولٌ به أي اعملُوا شُكرًا {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} أي المتوفِّرُ على أداء الشُّكرِ بقلبه ولسانِه وجوارحِه أكثر أوقاتِه ومع ذلك لا يوفِّي حقَّه لأنَّ التَّوفيقَ للشكرِ نعمةٍ تستدعِي شكرًا آخرَ لا إلى نهايةٍ ولذلك قيل: الشَّكورُ من يرى عجزَه عن الشُّكرِ. ورُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جزَّأَ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ على أهله فلم تكنُ تأتِي ساعةٌ من السَّاعاتِ إلا وإنسانٌ من آلِ داودَ قائمٌ يُصلِّي.
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت} أي على سليمانَ عليه السَّلامُ {مَا دَلَّهُمْ} أي الجنَّ أو آلَه {على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاْرْضِ} أي الأَرَضةُ أضيفتْ إلى فعلها. وقُرىء بفتحِ الرَّاء، وهو تأثُّرُ الخشبةِ من فعلِها، يقالُ أَرَضتَ الأَرَضةُ الخشبةَ أرضًا فأرضتْ أرضًْا مثل أكلتِ القوادحُ أسنانَه أَكْلًا فأكلتْ أَكلاَ {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} أي عصاهُ من نسأتُ البعيرَ إذا طردَته لأنَّها يُطرد بها ما يُطرد وقُرىء مِنُساتَه بألفٍ ساكنةٍ بدلًا من الهمزة وبهمزةِ ساكنةٍ وبإخراجها بينَ بينَ عند الوقفِ ومنساءتَه على مفعالةٍ كميضاءةٍ في ميضأَةٍ ومن سأتِه من أي طرفِ عصاهُ من سأةِ القوسِ وفيه لغتانِ كما في قِحَةٍ بالكسرِ والفتحِ وقُرىء أكلتْ مِنْساتَهُ.
{فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن} من تبيَّنت الشيءَ إذا علمته بعد التباسه عليك أي علمت الجنّ علمًا بيِّنا بعد التباسِ الأمر عليهم {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ في العذاب المهين} أي أنَّهم لو كانوا يعلمون الغيبَ كما يزعمون لعلمُوا موتَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينما وقع فلم يلبثُوا بعده حولًا في تسخيرِه إلى أن خرَّ أو من تبيَّن الشيءُ إذا ظهرَ وتجلَّي أي ظهرتِ الجنُّ وأنْ مع ما في حيِّزِها بدلُ اشتمالٍ من الجنُّ أي ظهر أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيبَ الخ وقُرىء تبيَّنت الجنُّ على البناء للمفعولِ على أنْ المتبيَّن في الحقيقة هو أن مع ما في حيِّزِها لأنه بدلٌ وقُرىء تبيَّنت الإنسُ والضَّميرُ في كانُوا للجنِّ في قوله تعالى: {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ} وفي قراءةِ ابن مسعودٍ رضي الله عنه تبينتِ الأنسُ أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيب. رُوي أنَّ داودَ عليه السَّلامُ أسَّس بنيان بيت المقدس في موضعِ فُسطاطِ مُوسى فتوفِّي قبل تمامه فوصَّى به إلى سليمانَ عليهما السَّلامُ فاستعمل فيه الجنَّ والشَّياطينَ فباشروه حتىَّ إذا حانَ أجلُه وعلم به سألَ ربَّه أنْ يُعمِّي عليهم موتَه حتَّى يفرغُوا منه ولتبطلَ دعواهم علمَ الغيبِ فدعاهم فبنَوا عليه صَرحًا من قواريرَ ليس له بابٌ فقام يُصلِّي متكئًا على عصاهُ فقُبض روحُه وهو متكىءٌ عليها فبقي كذلك وهم فيما أُمروا به من الأعمالِ حتَّى أكلتِ الأَرَضةُ عصاهُ فخرَّ ميِّتًا وكانت السَّياطينُ تجتمعُ حول محرابِه أينما صلَّى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فلم يكن ينظر إليه شيطانٌ في صلاتِه إلاَّ احترقَ فمرَّ به يومًا شيطانٌ فنظر فإذا سليمانُ عليه السَّلامُ قد خرَّ ميتًا ففتحُوا عنه فإذا عصاهُ قد أكلتها الأرَضةُ فأرادوا أن يعرفُوا وقتَ موتِه فوضعُوا الأَرضةَ على العصا فأكلتْ منها في يومٍ وليلةٍ مقدارًا فحسبُوا على ذلك فوجدُوه قد مات منذُ سنةٍ وكان عمرُه ثلاثًا وخمسين سنة، ملك وهو ابن ثلاثَ عشرةَ سنة وبقي في ملكه أربعينَ سنةً وابتدأ بناء بيتِ المقدسِ لأربعٍ مضين من مُلكِه. اهـ.

.قال الألوسي:

{ولسليمان الريح} أي وسخرنا له الريح، وقيل: {لسليمان} عطف على {لَهُ} في {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} [سبأ: 10] والريح عطف على {الحديد} وإلانة الريح عبارة عن تسخيرها.
وقرأ أبو بكر {الريح} بالرفع على أنه مبتدأ و {لسليمان} خبره والكلام على تقدير مضاف أي ولسليمان تسخير الريح، وذهب غير واحد إلى أنه مبتدأ ومتعلق الجار كون خاص هو الخبر وليس هناك مضاف مقدر أي ولسليمان الريح مسخرة، وعندي أن الجملة على القراءتين معطوفة على قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلًا} [سبأ: 0 1] الخ عطف القصة على القصة، وقال ابن الشيخ: العطف على القراءة الأولى على {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} وكلتا الجملتين فعلية وعلى القراءة الثانية العطف على اسمية مقدرة دلت عليها تلك الجملة الفعلية لا عليها للتخالف فكأنه قيل: ما ذكرنا لداود ولسليمان الريح فإنها كانت له كالمملوك المخص بالمالك يأمرها بما يريد ويسير عليها حيثما يشاء، ثم قال: وإنما لم يقل ومع سليمان الريح لأن حركتها ليست بحركة سليمان بل هي تتحرك بنفسها وتحرك سليمان وجنوده بحركتها وتسير بهم حيث شاء وهذا على خلاف تأويب الجبال فإنه كان تبعًا لتأويب داود عليه السلام فلذا جىء بهناك بمعه.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وخالد بن الياس {الرياح} بالرفع جمعًا {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك، والجملة إما مستأنفة أو حال من {الريح} ولابد من تقدير مضاف في الخبر لأن الغدو والرواح ليس نفس الشهر وإنما يكونان فيه، ولا حاجة إلى تقدير في المبتدأ كما فعل مكي حيث قال: أي مسير غدوها مسيرة شهر ومسير رواحها كذلك لما لا يخفى، وقال ابن الحاجب في أماليه الفائدة في إعادة لفظ الشهر الإعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح والألفاظ التي تأتي مبنية للمقادير لا يحسن فيها الإضمار ألا ترى أنك تقول زنه هذا مثقال وزنة هذا مثقال فلا يحسن الإضمار كما لا يحسن في التمييز، وأيضًا فإنه لو أضمر فالضمير إنما يكون لما تقدم باعتبار خصوصيته فإذا لم يكن له بذلك الاعتبار وجب العدول إلى الظاهر، ألا ترى أنك إذا أكرمت رجلًا وكسوت ذلك الرجل بخصوصه لكانت العبارة أكرمت رجلًا وكسوته ولو أكرمت رجلًا وكسوت رجلًا آخر لكانت العبارة أكرمت رجلًا وكسوت رجلًا فتبين أنه ليس من وضع الظاهر موضع الضمير كذا في حواشي الطيبي عليه الرحمة، ولا يخفى أن ما ذكره مبني على ما هو الغالب وإلا فقد قال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر: 11] ولم يقتصر على الإعلام بزمن الغدو ليقاس عليه زمن الرواح لأن الريح كثيرًا ما تسكن أو تضعف حركتها بالعشي فدفع بالتنصيص على بيان زمن الرواح توهم اختلاف الزمانين، قال قتادة: كانت الريح تقطع به عليه السلام في الغدو إلى الزوال مسيرة شهر وفي الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر.
وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أنه قال في الآية كان سليمان عليه السلام يغدو من بيت المقدس فيقيل باصطخر ثم يروح من اصطخر فيقيل بقلعة خراسان.
وقد ذكر حديث هذه الريح في بعض الأشعار القديمة قال وهب: ونقله عنه في البحر وجدت أبياتًا منقورة في صخرة بأرض كسكر لبعض أصحاب سليمان عليه السلام وهي:
ونحن ولا حول سوى حول ربنا ** نروح من الأوطان من أرض تدمر

إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا ** مسيرة شهر والغدو لآخر أناس

شروا لله طوعًا نفوسهم ** بنصر ابن داود النبي المطهر

لهم في معالي الدين فضل ورفعة ** وإن نسبوا يومًا فمن خير معشر

متى تركب الريح المطيعة أسرعت ** مبادرة عن شهرها لم تقصر

تظلهم طير صفوف عليهم ** متى رفرفت من فوقهم لم تنفر

وذكر أيضًا رضي الله تعالى عنه أنه عليه السلام كان مستقره تدمر وأن الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأشقر وقال: وفيه يقول النابغة:
ألا سليمان إذ قال الإله له ** قم في البرية فاسددها عن الفند

وجيش الجن إني قد أذنت لهم ** يبنون تدمر بالصفاح والعمد

انتهى، وما ذكره في تدمر هو المشهور عند العامة وقد ذكر ذلك الثعالبي في تفسيره مع الأبيات المذكورة لكن في القاموس تدمر كتنصر بنت حسان بن أذينة بها سميت مدينتها وهو ظاهر في المخالفة، ولعل التعويل على ما فيه إن لم يمكن الجمع والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وقرأ ابن أبي عبلة: {غدوتها...وروحتها} على وزن فعلة وهي المرة الواحدة من غدا وراح {وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} أي النحاس الذائب من قطر يقطر قطرًا وقطرانًا بسكون الطاء وفتحها، وقيل الفلزات النحاس والحديد وغيرهما، وعلى الأول جمهور اللغويين، وأريد بعين القطر معدن النحاس ولكنه سبحانه أساله كما ألان الحديد لداود فنبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سمي عين القطر باسم ما آل إليه، وذكر الجلبي أن نسبة الإسالة إلى العين مجازية كما في جري النهر.
وقال الخفاجي: إن كانت العين هنا بمعنى الماء المعين أي الجاري وإضافته كما في لجين الماء فلا تجوز في النسبة وإنما هو من مجاز الأول على أن العين منبع الماء ولا حاجة إليه اه فتأمل.
وقال بعضهم: القطر النحاس وعين بمعنى ذات ومعنى أسلنا أذبنا فالمعنى أذبنا له النحاس على نحو ما كان الحديد يلين لداود عليه السلام فكانت الأعمال تتأتى منه وهو بارد دون نار ولم يلن ولا ذاب لأحد قبله والظاهر المؤيد بالآثار أنه تعالى جعله في معدنه عينًا تسيل كعيون الماء.
أخرج ابن المنذر عن عكرمة أنه قال في الآية: أسال الله تعالى له القطر ثلاثة أيام يسيل كما يسيل الماء قيل: إلى أين؟ قال: لا أدري.